رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمينبسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
ففي ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رحمة الله للعالمين والقدوة البشرية السامية؛ سنتناول بعون الله وتوفيقه على مدار رسالتين موضوعين متكاملين؛ الأول: كيف واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الابتلاءات، والثاني: الرسول القدوة والمبشرات.
أولاً: الابتلاءات
عندما نتدبَّر آيات الله عز وجل في القرآن التي حدثتنا عن ابتلاءات الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، سنجد أنها سنةٌ لا تتخلَّف أن يكون هؤلاء الرهط الكريم أكرم الخلق على الله أشدَّ الناس بلاءً "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، وقد تعدَّدت صور الابتلاءات، وتنوَّعت لكل رسول ونبي على حدة.
وعلى رأس الجميع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فكمُّ الابتلاءات التي تعرَّض لها وتنوُّعها لم تجتمع على إنسان واحد قط؛ كي يكون بحق قدوةً لكل مبتلًى وكل مظلوم وكل من كُذِّب وأوذي.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21).
فها هو يعاني من اليتم المزدوج للأبوين، وكذلك الاغتراب منذ طفولته، والفقر وضيق ذات اليد؛ حتى يعمل راعيًا للغنم، ثم قاسى وفاة الجد ووفاة العم ووفاة الزوجة ووفاة الابن وطلاق البنتين، وابتلاء حمل الرسالة، وثقل الأمانة في مواجهة الصدِّ والتكذيب والإيذاء وضربه بالحجارة، وإلقاء سلا الجزور على ظهره الشريف، وإيذاء أتباعه بكل صنوف العذاب، ثم الحصار والمقاطعة والسجن في شعب أبي طالب "ما لهم من طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت الأشداق"، وهو ما لم يحدث في أي سجن من السجون حتى الآن.
وكان الصحابة يستغيثون به، لعل دعوةً واحدةً مستجابةً ترفع عنهم هذا البلاء، وقد كان ذلك ممكنًا لولا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذه سنة الله في أصحاب الدعوات؛ لقول الله عز وجل ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).
من هم هؤلاء؟! ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 156)، أي أننا نحن وما نملك ملكٌ لله، وكلنا وما تحت أيدينا عاريةٌ مستردَّة، سيأخذها صاحبها وقت ما يشاء.
لذلك كان صلى الله عليه وسلم يضرب للصحابة مثلاً أصعب مما هم فيه من التعذيب والأذى، وهو ما حدث لأصحاب عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ليؤكد لهم أن هذه ضريبة الدعوات وثمن الجنة لمن أراد أن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فسلعة الله غالية، وليس أمامهم إلا الثبات حتى يُظهر الله هذا الدين أو نهلك دونه.
وقد عُرضت عليه كلُّ الإغراءات، يا من تظنون أننا طلاب سلطة.. لو أردت مُلكًا ملَّكناك، ولو أردت مالاً جمعنا لك المال حتى صرت أغنانا، فكان ردُّه صلى الله عليه وسلم: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
ولقد حذَّره ربه- ونحن من بعده-: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ﴾ (المائدة: من الآية 49)، ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم: 9)، ومن هنا وبناءً على هذه القواعد الأصلية علَّمَنا الأستاذ البنا رحمة الله عليه أن ما يصيبنا في هذا الطريق إنما هو من العلامات الدالَّة على سلامة الطريق وصدق التوجه.. "ستُسجنون وتُشرَّدون وتُنقَلون وتُصادَر أموالُكم، وسيستغربون فهمَكم للإسلام عندها تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات".
حتى لا يظن أحد أن هذه الابتلاءات سببها أننا دخلنا المعترك السياسي، وأننا ننافس في الانتخابات، وأننا لو توقفنا عن ذلك وانكفأنا على ذاتنا وحصرنا دورنا في العمل الدعوي والتربوي لأنقذْنا أنفسنا وإخواننا وجماعتنا من هذا الظلم والاضطهاد والسجون والمعتقلات ومصادرة الأموال وتفزيع الزوجات والأولاد والبنات والآباء والأمهات، وهذا وهمٌ؛ لأنهم لا يحاربوننا من أجل الإقصاء السياسي أو الاستئثار بالبرلمان والنقابات والاتحادات والأندية.. كلا وألف كلا.. والله لو تركناهم وشأنهم ما تركونا وشأننا.
أما السبب الحقيقي فهو الحق الذي نحمله، والإسلام الشامل الذي ننادي به كما قال ورقة بن نوفل ابن عم أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم "فما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي"، وإننا وهم في سفينة واحدة يحاولون خرقها، ونحن أمرنا بأن نقف في وجه إفسادهم لننجو وسينجون معنا إن استجابوا.
وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها ثاقبةَ النظرة، أوتيت الحكمة، هي هي التي قالت إنه صلى الله عليه وسلم "يقري الضيف، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، ويكسب المعدوم"، ونحن نحاول أن نقدم ما أمرنا به الإسلام، وقدَّمه لنا قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعمال البر والخير، فلم يزدهم ذلك إلا اضطهادًا لنا وإغلاقًا لمدارسنا ومصادرةً لجمعياتنا الخيرية ومستوصفاتنا التي تحمل الخير والبر والعلاج لكل أبناء الوطن، مسلمين ومسيحيين.
وهي هي أيضًا التي طمأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطمأنتنا من بعده ما دمتم تقومون بما قام به رسولكم الكريم "والله لن يخزيك الله أبدًا"؛ لأنه من السنن الإلهية أن من يفعل ذلك سيعاديه أهل الباطل وجنود الشيطان، ولكن العاقبة دائمًا للمتقين وقد كانت وستظل.
ولقد كان كل همِّه صلى الله عليه وسلم البحث عن حصانة للدعوة وحماية لها، لا عن نجاة له من الأذى "من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي".. "حتى يظهره الله أو أهلك دونه"؛ لذا كان هتافك الدائم "الجهاد سبيلنا" بكل صوره وعلى قدر إمكانات كل فرد فينا؛ فهو ذروة سنام الإسلام، وأفضله كلمة حق (فقط) عند سلطان جائر، انظروا كيف تكون عند الله قيمة كلمة الحق مهما كانت نتائجها، حتى ولو كانت قتل قائلها، عندها سيكون فعلاً الموت في سبيل الله- على أي جنب وفي أي حال وفي أي مكان- أسمى أمانينا.
وكأني برسول الله صلى الله عليه و سلم في سيرته العطرة الزكية يقول لنا بلسان الحال: هل تظنون أن الابتلاءات ستتوقف حتى بعد التمكين وإقامة الدولة الإسلامية، والتي كان قائدها وزعيمها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس هذا ما حدث.. نعم، إن الابتلاء هو الابتلاء، والاختبارات هي هي الاختبارات ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 141)، والنتائج هي هي نفس النتائج من باع نفسه وماله لله لا يقترح على الله كيف ومتى يأخذها أو يأخذ بعضها فكلنا لله وكلنا إليه راجعون.
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مَكَّن الله له ولصحابته يُؤذي أذى يترك إصاباتٍ مستديمةً تلازمه حتى لقي ربه.. كُسرت رباعيته وشُجَّ وجهه، وغابت حلقتا المغفر في وجنتيه الشريفتين، كل هذا حتى يكون الدرس أقوى والأذى أبلغ في نفس كل من تسبَّب في إيذاء رسول الله من الرماة الذين خالفوا أمره.
بل كان أكثر ما يؤلم المؤمنين الصادقين أن نَجَم النفاق في المدينة بكل مشكلاته عندما بدأت الدنيا تُفتح عليهم، فهل هناك راحة لمؤمن من كل أصناف الابتلاءات إلا أن يثبته الله على أي حال كان، فلا يغير ولا يبدِّل حتى يلقى ربه وهو عنه راضٍ، فتكون راحته فعلاً في لقاء ربه.
ولقد مرَّ عليه وعلى المسلمين حوالي ثلاثين غزوة وسرية بتوابعها في عشر سنوات فقط.
وفي مرضه الأخير صلى الله عليه وسلم كان يوعك كما يوعك رجلان، ويؤلمه أبهره، ويعاني من آثار السم الذي وضعته له اليهودية كل عام في نفس الميعاد.
وأسرُّ في أذن كل أخ حبيب بقول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (النساء: 83) لا يمنعك أحد من التفكير في الأفضل، فالتفكير والتفكر فريضة لها أجرها، نعم لا بأس يا أخي من الاقتراح حتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علَّمنا وشجَّعنا على هذا، ولكن ضع اقتراحك عند قيادتك حتى تتمَّ بركة الشورى وتخلص من حظِّ النفس، كان بعض الصحابة يقول هذا رأيي وأرجو ألا يُعمل به؛ لأن حبَّ الظهور يقصم الظهور، وبعد اتخاذ القرار ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 159).
وأنتم أيها الأحباب خلف الأسوار في السجون والمعتقلات..
لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ، فاصبروا واحتسبوا، واجعلوا حلاوة الأجر تُنسيكم مرارة الصبر، وعما قريب بإذن الله ستقولون ذهب السجن وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله، وانظروا في دينكم إلى من هو أعلى منكم وفي دنياكم إلى من هو أدنى منكم، يكتبكم الله صابرين شاكرين، فرَّج الله كربكم وكرب إخوانكم، بل وأخواتكم الأسيرات في سجون العدو الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، وخلفكم وخلفهم وخلفهنَّ في الأهل والولد والدعوة بخير ما يخلف به عباده الصالحين.. ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾ (فصلت).. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).